سوف لن يصل إلى وجهته إبدًا - 1

سوف لن يصل إلى وجهته إبدًا
مفتتح
الطرق التي يشقها النهر لن تكتمل إلا بموت النهر، ولم يجرؤ أحدنا أن يحاول أن يغرق النهر فالنهر لا يغرق ولكنه يجف فيموت مثل المحبة والمشاعر الدافئة التي تزورها الرياح فتبرد وتضمر وتصبح بحجم حبة أرز في داخل القلب ما يلبث أن يطهييها فتشيخ وتلقى في النهر الذي تنحرف أمواجه عنها فتموت ولا تنمو.
الحياة ليست قاسية ولا كما يقول الناس ظالمة، الحياة حياة وكل مننا يملك قاربه، يجلس الرجال بجانب النهر يسردون قصصهم معه، ويدونون نقاط شجاعتهم عليه ويخوضون في سيرته ويصفونه بأنه سئ وخاسر وقاسي القلب، ولكنهم هما من يحكون القصص دومًا فاللص دومًا هو النهر الذي لا يأتي إبدًا رغم أنه قريب للغاية، ليحكي لنا قصته ويسردها فطالما النهر جار ولا يملك لسانًا فالبحارين هم الشجعان على الدوام.
يملك كلاً مننا قاربه في قريتنا ويظلمون النهر ويشتمونه على الدوام، حتى الصغار مننا يحكون أن النهر كاذب ويلتهم حكايا الأطفال الصغار وأمنيات الصبايا ويدمر العلاقات بين الرجال والنساء ويصيب أرضنا بالقحط وينزل ببيوتنا ما لا يفعل، يسمع النهر ولا يرد، يرى النهر ولا يرد.
تحكى لنا عجوز القرية أن النهر يسعى دومًا إلى وجهة لا نعرفها ويبدو أنه لا يعرفها، تمخر كل يوم موجاته وتهدر مياهه لتصبح أشد وأقوى كأنه يستنجد بنا أن نرأف به وبحاله، أو أنه يريد أن يقول لنا شيئًا لا ندركه، تقول لنا العجوز أن النهر ليس قاسي ولا ظالم، النهر نهر مثل أن الحياة حياة والموت موت، فالسماء لا عيب فيها أنها زرقاء ولا أن الشمس يسيئها أنها تذهب في المغيب.
تردف أننا في القرية كلنا نملك قواربنا أليس كذلك؟ نقول نعم، فكل طفل في القرية يملك منذ مولده قاربه، وكل رجل وطفلة وشابة في القرية يملكون قواربهم وحتى كل عجوز لا يعمل وتطأ قدمه النهر يملك قاربه، نحن نعمل ونجد لنزين قاربنا ونجمله، ونقوي عوارضه كي تتحمل خبطات النهر الغادرة، نحمل معه في جيوب القارب ما يعيننا على رحلات الصيد الطويلة في النهر المتقلب الغاشم، نزين قواربنا ونشحذ أسلحتنا كي نتمكن من نزوله والعودة منه سالمين.
تقول العجوز: أن النهر ليس لديه ما يخفيه، وأن كل مننا عليه أن يجهز قاربه ويذهب في رحلته وحده، هناك قانون في القرية لا يمكننا أن نكسره مهما كانت الظروف، ومهما كانت الأحوال، لا يجب إبدًا أن يذهب أكثر من شخص واحد في قارب لنزول النهر، ستحل لعنة علينا جميعًا وسيجف النهر للأبد ولن تصبح هناك حياة بدون ذلك النهر الغبي.
في شروق شمس كل يوم، نجد ونصحو ونتأهب ونجهز قواربنا، نخزن ما سنحتاج لرحلتنا في النهر، يغادر في الرحلة كل أهل القرية، لا يبق أحد، مع شمس كل يوم تصبح القرية خاوية العروش، كهيكل سمكة تونة صغيرة في صحراء شاسعة، نبدأ في تجهيز قواربنا وننزل بها في النهر، نسمع أصوات تخبط كل قارب في الماء ومن ثم يغطس قليلا ويكمل رحلته، تبدأ كل القوارب في النزول، يدعو الأطفال إلا يصيبهم أذى وتدعو النساء إن يرجعن بسلام ولا يجفل الرجال للصوت الذي يصدره ارتطام قواربهم بأمواج النهر كأنهم لا يخشونه وهو يفعلون.
النهر في الأزمنة الغابرة تقول العجوز أنه كان مسالمًا وديعًا وطيبًا قبل أن تجن جنونه ويبحث عن وجهة لا يعرفها أحد في كل يوم يحاول أن يشق طريقًا جديدًا لوجهة لا يعلمها ولا نعلمها وفي خلال محاولاته تلك تهدر أمواجه لتهزأ بالرجال الخائفين الذين كانوا بالأمس يحكون عن صولاتهم وجولاتهم في بطن ذلك النهر، كأنه يقل لهم أهلاً بكم ولنكشف الأن الحقيقة، كل الحقيقة.
تبكي النساء ويذعر الأطفال، لا يأبه لهم النهر فالحقيقة أن النهر لا يعرف أصلا أنهم يمخرون عبابه ولا يدرك أن قواربهم ترتطم بأمواجه، هو لا يدرك أنهم يصيدون منه ويطعمون أنفسهم، ولا يهتم أن فعلوا، هو لا يفعل سوى ما عليه فعله كل يوم، محاولة الوصول لوجهة جديدة ومحاولة معرفة ما الذي يبحث عنه؟

29 يوليو
2020
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2020 01:29 Tags: سوف-لن-يصل-إلى-وجهته-إبد-ا
No comments have been added yet.