كم عمر الغضب Quotes

Rate this book
Clear rating
كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي by فؤاد زكريا
162 ratings, 4.04 average rating, 40 reviews
كم عمر الغضب Quotes Showing 1-20 of 20
“إنها قصة حزينة، وأشد جوانبها مدعاة للحزن هو أن كل الأطراف فيها مدانون، وكلهم يسهمون في تلك الجريمة الكبرى التي لم ترتكب النظم اللاديمقراطية ما هو أفظع منها- جريمة هدم العقول”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“ولكن غضبي لم يكن وليد خريفٍ عاصف، بل كان عمره أطول بكثير …”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“أسهل أنواع الكفاح وأقلُّها تكلفةً هو أن تكافح بعد فوات الأوان بينما تظل متفرجًا، أو تتواطأ، عندما تكون الأحداث ساخنة، يمكن التأثير عليها وتغييرها إلى الأفضل، فبهذا اللون من الكفاح بعد فوات الأوان، تبدو أمام الناس وطنيًّا، مع أنك لم تفعل شيئًا.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“هذه هي النتيجة المأساوية للدكتاتورية: الخوف، النفاق، تملق الزعيم والاستجابة لرغباته بدلًا من تحقيق مصلحة المجتمع، الامتناع عن المعارضة، وفي مقابل ذلك، شجاعة المتكلم الأوحد، الذي يستطيع هو وحده أن يتكلم «بغير حرج»، هل هذا أسلوب في الحكم يمكن أن يقيم ثورة أو يبني مستقبلًا أو يُكوِّن رجالًا؟”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“«لقد كانت المجموعة الأمريكية التي شيعت جنازته ضخمة إلى حدٍّ لم يُعرَف له مثيل من قبلُ، وهكذا فإننا بعد أن خذلناه حيًّا، قد احتضناه ميتًا.»١
في هذه الشهادة المباشرة، يظهر بوضوحٍ أن السادات كان، بالنسبة إلى أمريكا، قد استنفد أغراضه، وأدى ما هو مطلوب منه ثم تُرك لمصيره المحتوم، ولم يعد مجديًا بعد ذلك أن يحاول استرضاءهم بتصريحاتٍ حامية ضد الشيوعية؛ إذ إنهم كانوا قد أداروا له ظهورهم، وعندما زارهم قبل مصرعه بشهرين، كان واضحًا أنه لم يعد في نظرهم الزعيم المفضَّل الذي كان، ومنذ كامب ديفيد، بل منذ زيارة القدس، أدرك أصدقاء أمريكا، الأكثر منه ذكاءً والأبعد منه نظرًا، أن السفينة غارقة لا محالة، وهكذا قفز منها إسماعيل فهمي، ثم منصور حسن، ثم هيكل، الذي كان على أية حال واعيًا بأبعاد الأزمة قبل الجميع، ولو لم يكن القتل الفعلي قد تم بتدبيرٍ من أمريكا، لأمكن القول — على أقل تقدير — إن أمريكا هي التي قيدت يدَي السادات بالسلاسل، وأمسكت برأسه وشدتها إلى الوراء، ولم يبقَ إلا السكين التي تذبح.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“فبعد أن وقَّع السادات معاهدة كامب ديفيد، بما فيها من بنودٍ مفصَّلة، بشأن انسحاب إسرائيل من سيناء والتطبيع معها، وبما فيها من إشاراتٍ قليلة شديدة الغموض عن القضية الفلسطينية، وبعد أن ثارت ثائرة العالم العربي على هذه المعاهدة، وقطعت معظم بلاده علاقاتها بنظام السادات، كانت أمريكا تستطيع أن تسلك طريقًا من طريقين:

الطريق الأول هو أن تدعم السادات وتضمن مستقبله السياسي، عن طريق إثبات صحة موقفه أمام العالم العربي، ويقتضي هذا الأمر أن تتطور الاتفاقية بحيث تصبح أكثر من مجرد صلح منفرد بين إسرائيل ومصر، أي أن تسير — كما طالب السادات مرارًا — في طريق التسوية الشاملة. مثل هذا المسلك سيكون فيه إنقاذ للسادات؛ لأنه رهن مستقبله السياسي، وعلاقاته مع العالم العربي بأسره، على هذا التوقع، ولو سارت أمريكا، ومعها إسرائيل، في هذا الطريق، وحققت للسادات على الأقل جزءًا مما يريد، خارج نطاق التسوية المحلية بين مصر وإسرائيل، لاستطاعت أن تعيد إليه مكانته في العالم العربي، ولأمكنها أن تربط كثيرًا من البلاد العربية بعجلة الاتفاقية الجديدة.

ولكن هذا الطريق كان ينطوي، من وجهة نظر أمريكا، على عيوبٍ واضحة: إذ إنه يؤدي إلى دفع ثمنٍ باهظ، هو الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة بعد ١٩٦٧م، وإلى توحيد البلاد العربية في خطٍ سياسيٍّ واحد، يقوِّي جبهتها في المطالبة بالحقوق الفلسطينية، وقد يؤدي في المدى الطويل إلى إنشاء كيانٍ فلسطيني على مستوًى معقولٍ، فضلًا عما تؤدي إليه التسوية الشاملة، بشروطٍ معقولة، من توفيرٍ ضخم للأموال والطاقات العربية في اتجاه التنمية والتعمير.

أما الطريق الثاني، الذي يرجح أن إسرائيل قد ألحَّت عليه، واستجابت لها أمريكا بعد أن اقتنعت بأنه أكثر تحقيقًا لمصالحهما المشتركة، فهو عدم مجاملة السادات، وعدم بذل أي جهد من أجل إنقاذه من ورطته، ما دام قد أدى مهمته الأساسية، وعدم التنازل لبقية العرب عن شيء، هذا الطريق يتضمن من وجهة النظر الأمريكية-الإسرائيلية، مزايا عديدة: بقاء العالم العربي ممزقًا وفي حالة ضعفٍ شديد، والاستفراد بكل دولة بعد الأخرى وعزلها عن الباقين، وإخراج مصر نهائيًّا من الصراع العربي الإسرائيلي، وضمان حرية الحركة الكاملة لإسرائيل. وهكذا فإن مزايا هذا الطريق أعظم بكثير، من وجهة نظر جبهة الأعداء، من الطريق الآخر.

وكان الثمن الوحيد الذي ينبغي دفعه في حالة اتباع هذا الطريق الثاني، هو التضحية بالسادات …”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“كان هيكل يعرف جيدًا أن أمريكا لا ترتبط طويلًا بالعشيق الولهان بحبها أكثر مما يجب، والذي يفصح عن هذا الحب علنًا ودون مواربة، أنها سرعان ما تنبذ كل من يفضح غرامه بها؛ لأنها تفضل دائمًا العلاقات الخفية، المستورة، الشديدة الفعالية، ولا بأس — حتى — من مهاجمة أمريكا في العلن من آنٍ لآخر، حتى تظل الروابط الخفية قائمة. هذا هو قانون الغرام الأمريكي الذي لم يفهمه السادات، فدفع حياته ثمنًا لعدم الفهم.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“هكذا فإن الأمريكيين لا يكوِّنون صورتهم عن أي زعيمٍ على أساس فضائله الداخلية أو الشخصية، أو حتى طريقته السليمة في الحكم، بل على أساس ما يمكن أن يجنوه منه من فوائد، فالسادات كان معبود الأمريكيين، لا لأن شخصيته كانت محبَّبة لديهم؛ بل لأنه حقق لهم أكثر مما كانوا يحلمون في الشرق الأوسط كله، فأخرج السوفييت من أهم بلدٍ عربي، وفتح الأبواب للأسلحة والخبراء الأمريكيين، وأعطى الاستراتيجية الأمريكية قواعد أو ركائز أو تسهيلات (سَمِّها ما شئت، فالحقيقة واحدة)، وجعل محاربة الشيوعية هدفًا له الأولوية المطلقة على مكافحة الصهيونية، وتطرف في تحديد المقصود ﺑ «الشيوعية» حتى أدمج فيها كل حركةٍ وطنية تكافح الاستعمار والاستغلال، أما مسألة ما إذا كان حاكمًا جيدًا أو سيئًا، وما إذا كان قادرًا على حل مشاكل شعبه أم مشاركًا في تخريبه، فهذه مسائل لا تهم الأمريكيين كثيرًا، وكم من طاغيةٍ في أمريكا اللاتينية، مثلًا، كانت فضائحه وجرائمه على ألْسنة الناس في العالم أجمع، ومع ذلك كان الأمريكيون معجبين به أشد الإعجاب، ويساعدونه بكل طاقتهم في تثبيت حكمه الإرهابي، كما حدث في حالة سوموزا، وباتستا، وما يحدث حاليًّا في حالة بينوشيت.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“إننا نعلم جميعًا أن أجهزة الإعلام الغربية، والأمريكية بوجهٍ خاص، قد تعمدت أن تضخم صورة السادات، ولم يكن ذلك راجعًا فقط إلى إعجاب هذه الأجهزة بذلك الصديق المخلص الجديد، أو إلى صفاتٍ معينة في شخصيته، أهَّلته لكي يكون في نظرها «نجمًا»، وإنما كان يرجع قبل كل شيء إلى رغبتهم في الحصول منه على المزيد من التنازلات، عن طريق خدعة الإعجاب الإعلامي الزائد؛ فقد كان من الواضح أن لدى السادات، شأنه شأن معظم الحكام الفرديين، وربما بصورةٍ أشد تطرفًا من الباقين؛ ميلًا شديدًا إلى الإحساس بأهميته وخطورته، وكان ذلك يتجلى بوضوحٍ حين تنشر الصحف المصرية، على الدوام، تعليقات الصحف والإذاعات الأخرى على خطاباته؛ لكي تبين مدى إعجاب الآخرين به. وقد أتقن الأمريكيون فن دراسة نقط الضعف في شخصيات الزعماء، وخاصة في العالم الثالث، للاستفادة من نقاط الضعف هذه بقدر ما يستطيعون. وهكذا كان كل مقال يُكتَب عن السادات في صحيفةٍ أمريكية، وكل صورة له أو لأسرته، على غلاف مجلة أمريكية، تعني مزيدًا من التنازلات، ومزيدًا من الترحيب بالنفوذ الأمريكي، ومزيدًا من الامتيازات الاقتصادية أو العسكرية التي تُمنح للغرب بوجهٍ عام.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“أما الطريق الآخر، فهو الطريق العكسي، أعني طريق الإذعان لمطالب أمريكا، وتقديم الخدمات والتسهيلات لها، وتحقيق مصالحها في المنطقة إلى الحد الذي يأمل أصحاب هذا الطريق أن يؤدي إلى تخفيف انحيازها لإسرائيل، ما دام هناك أصدقاءُ جدد يؤدُّون وظيفة إسرائيل التقليدية، وهي حماية المصالح الأمريكية، هذا الطريق إذن لا يكمن في تهديد مصالح أمريكا، بل في التنافس مع إسرائيل على حماية هذه المصالح، ونظرًا إلى أن الطريق السابق طويلٌ وشاق، ويفترض شروطًا يحتاج تحققها إلى ثورةٍ كاملة، لو حدثت لما عدنا نحتاج إلى هذا التحييد، فإن نوع التحييد الذي يمكن تنفيذه عمليًّا، في ظروف العالم العربي الراهنة، هو النوع الثاني؛ أعني التحييد الاستسلامي، ولهذا التحييد دائمًا ثمنٌ فادح، فما الذي يدفع أمريكا إلى الامتناع عن مساندة إسرائيل أو التخفيف من انحيازها لها؟ إن إسرائيل حليفٌ قوي، يحقق لها مصالحَ ضخمة: ردع قُوَى التحرر في العالم العربي، ضمان تدفق النفط للغرب، صدُّ «الخطر الشيوعي»، وعلى ذلك فالمطلوب منا أن نقوم نحن بأداء هذه الخدمات كلها لأمريكا، حتى تدرك أن مصالحها لا تتحقق على يد إسرائيل وحدها، لا سيما وأن لدينا مزايا خاصة، هي اتساع الرقعة جغرافيًّا، واستراتيجية الموقع، والموارد البشرية والمادية الكبيرة.

هذه هي النظرية التي تبنَّتها المدرسة الساداتية، عمليًّا، وكانت أولى خطواتها هي طرد الخبراء السوفييت إرضاءً لأمريكا، وتلتها خطواتٌ أخرى: منح القواعد أو التسهيلات العسكرية، المشاركة في بعض الحروب الصغيرة لصالح الغرب (زائير والصومال وتشاد وأفغانستان وغيرها)، تغيير اتجاه الاقتصاد بحيث يصبح رهينة للبنوك الأمريكية والدولية، وتأكيد دور القطاع الخاص مع الإقلال من أهمية القطاع العام … الخ.

وهكذا يؤدي الجري وراء سراب «التحييد»، إلى أن يصبح العرب أشبه «بالزوجة الثانية» للزوج الغني والقوي: أمريكا، وككل زوجةٍ ثانية، يتعيَّن على العرب أن يتفنَّنوا في إرضاء أمريكا وإغرائها بالتنازلات حتى تنصرف عن الزوجة الأولى (إسرائيل)، ومع كل ذلك فإن إسرائيل القوية، التي يتسم نظامها بالثبات، ولا يتصف بتقلبات الأنظمة العربية ومزاجيتها، والتي تشارك أمريكا «ديمقراطيتها» واعتمادها على مؤسساتٍ ثابتة، لا على أهواءٍ شخصية؛ إسرائيل هذه هي التي تكسب «الزوج» في النهاية، بعد أن تكون الزوجة الثانية قد أعطت أعزَّ ما تملك!

هذه هي النتيجة التي توصل إليها سياسة «التحييد» عمليًّا، وقد اختبرت هذه السياسة، كما قلت، في حرب أكتوبر، فكانت النتيجة مزيدًا من التدخُّل الأمريكي لصالح إسرائيل، مما جعل السادات نفسه يقول: أوقفت القتال؛ لأنني لا أستطيع أن أحارب أمريكا! ولكن المأساة هي أن نفس اللحظة التي بلغ فيها تدخل أمريكا لصالح إسرائيل ذروته، كانت هي اللحظة التي بلغ فيها هيام أصحاب سياسة «التحييد» بأمريكا أعلى قممه. ومنذ أن بذلت أمريكا أكبر جهد تملكه من أجل تزويد إسرائيل بأضخم كمية من الأسلحة لكي تقتل بها أبناءنا وتحتل أراضينا، أصبحت هي الصديق، ثم الحليف والوليف!”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“إن اسم ترومان يرتبط بتاريخٍ أسود ستلعنه من أجله كل أجيالنا التالية: هو القيام بأهم دور في قيام دولة إسرائيل، والاعتراف بها بعد خمس دقائق من إعلان قيامها، والضغط على أكبر عددٍ ممكن من دول العالم من أجل الموافقة على قرار الأمم المتحدة بشأنها. فهل هذه هي الأسباب التي أصبح من أجلها ترومان، في نظر هيكل، واحدًا من أعظم رؤساء أمريكا في العصر الحديث؟ أستطيع، من وجهة نظري الخاصة، أن أعطي هيكل كل الحق في تشبيهه لأنور السادات بترومان، إذا كان المقياس الذي نتبعه هو مقدار الخدمات التي يؤدِّيها الرئيس لدولة إسرائيل!”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“كان السادات أذكى من الجميع؛ لأنه أدرك قانون اللعبة: اترك الزعيم يمارس قوته وإياك أن تقول له «لا» مهما فعل، ولكن ما ينبغي أن نتذكَّره هو أن هذا القانون يحتاج إلى طرفين: طرف يلتزم بالقبول والخضوع، وطرفٌ آخر — هو الزعيم — يجعل مقياس قرب الناس منه هو مدى خضوعهم له، ومدى تخلِّيهم عن إراداتهم الخاصة لكي يكون هو صاحب الإرادة الشاملة.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“أغلب الظن أن هيكل اضطر إلى ترويج هذا التفسير الهزيل؛ لأنه وجد نفسه أمام سؤالٍ محرج، تسأله تلك الأجيال الشابة الجديدة التي تنظر إلى عبد الناصر على أنه أعلى نماذج الوطنية، والتي رأت بنفسها ما لحق بمصر والعرب من انهيارٍ في عهد السادات، هذا السؤال هو: كيف اختار زعيمٌ كبير كعبد الناصر خليفةً مختلفًا عنه في كل شيء مثل أنور السادات؟ ومما يزيد هذا السؤال تعقيدًا، أن هيكل أكد بصورةٍ قاطعة أن عبد الناصر كان يعرف كل شيء عن السادات، كان يعرف ماضيه مع القصر، وميله إلى الاستمتاع بحياته بكل الطرق في حاضره، وانبهاره بالأمريكان، أعداء الوطن العربي الألدَّاء منذ عام ١٩٦٧م على الأقل، وإذن يعود السؤال بإلحاح: كيف يقبل زعيمٌ وطني أن يأتمن شخصًا مناقضًا له في كل شيء على وطنه من بعده؟ من أجل محاولة الإجابة على هذا السؤال المحرج، اضطر هيكل إلى أن يتحدث عن تعيين نواب رئيس الجمهورية «بالدور»، وعن «نسيان» الرئيس لنائبه في مكانه إلى أن خلفه بعد موته، أعني، بالاختصار، اضطر هيكل إلى أن يلفق إجابة لا تقنع أحدًا.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“وإنما اقتبستها لكي أشرك معي القارئ في محاولةٍ طويلة لاستخلاص المعاني البشعة التي تنطوي عليها هذه السطور.

أول هذه المعاني هو البساطة العجيبة التي اتُّخذ بها قرارٌ خطير كهذا ونفذ على الفور: عبد الناصر يطلب إلى السادات أن يجيء معه بالمصحف أثناء مروره عليه ليصحبه إلى المطار، السادات لا يعرف السبب، ولكن المفاجأة تنتظره، يقسم اليمين، وبذلك يتحدد من سيكون رئيس جمهورية مصر القادم، هيكل نفسه لم يكن يعرف، ولكن يتضح أن السبب هو تقرير عن مؤامرةٍ محتملة في المغرب لاغتيال عبد الناصر، مؤامرة لم ينظر إليها عبد الناصر بجدِّية، ولكن لا بأس من الاحتياط! هكذا، بلا استشارة حتى من أقرب المقربين، يحدد الحاكم من سيخلفه في حكم بلاده في مرحلةٍ من أحرج المراحل التي مرت بها طوال تاريخها الحديث، ويقرر بذلك مصير أمته من بعده! لست أدري ماذا يكون شعور القارئ حين يقرأ هذه السطور، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بالإهانة حين وجدت مستقبلي ومستقبل أبنائي وبلدي، يحدد بمثل هذا الاستخفاف، دون أن تكون لي، كمواطن، كلمة ولا رأي، ودون أن يصل صوتي عن طريق القنوات التي صاغتها تجاربُ طويلةٌ للشعوب، والتي تتيح للناس في المجتمعات التي تحترم مواطنيها أن يختاروا من سيتحمل مسئولياتهم في مستقبل الأيام.

ولكن لدى هيكل، بالطبع، إجابةٌ جاهزة، إنه يقول للقارئ: لم يكن هناك عندئذٍ ما يدعو إلى الانزعاج، ولا حتى إلى الاهتمام، فقد كانت المسألة مؤقتة، لن تطول أكثر من أسبوع، وكانت مجرد احتياط من أن تقع مؤامرة الاغتيال في المغرب، وكل ما في الأمر هو أن السادات قد خدمه الحظ، طوال السنوات التالية؛ لأن عبد الناصر وضعه على كرسي الخلافة ونسي أن يبعده عنه — وهو معذور في هذا النسيان، فقد كانت الأحداث جسامًا، ولم يكن لديه من الوقت ما يسمح له بأن يتذكر هذا الموضوع التافه، موضوع تعيين السادات خليفة له في حكم مصر!

مرةً أخرى، لست أدري، ماذا يكون شعور القارئ وهو يستمع إلى حجة هيكل هذه، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بإهانةٍ أخرى، إهانة لعقلي وتفكيري وآدميتي يوجهها إليَّ واحد من أولئك الذين عاشوا طويلًا في جو الاستخفاف بعقول الناس والاستهانة بهم.

فحسَب أقوال هيكل نفسه، وقع اختيار عبد الناصر على السادات لتسيير شئون الدولة مرتَين، لا مرةً واحدة، الأولى عند إصابته بنوبةٍ قلبية، والثانية عندما قرأ تقارير الأمن عن المؤامرة المغربية الأمريكية المحتملة، وهذا معناه أن الاختيار لم يكن عشوائيًّا على الإطلاق، بل كان متعمدًا مقصودًا، ولا شك أن الإصابة بنوبةٍ قلبية هي إنذارٌ كافٍ لأي إنسان، أي أن احتمالات النهاية لا بد أن تكون قد طافت، ولو من بعيد، بذهن عبد الناصر؛ وعلى ذلك فحين يختار خلفًا له، فإنه يعلم أن هذا يمكن أن يكون اختيارًا لمستقبل بلاده، وحتى لو كانت مؤامرة المغرب مجرد إشاعة، فإنها تستدعي اختيار أصلح العناصر للخلافة، على سبيل الاحتياط أيضًا.

ولكن الكارثة الكبرى في الموضوع كله تكمن في نقطتَين: الأولى هي قول عبد الناصر: «إن الآخرين جميعًا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابًا لرئيس الجمهورية إلا أنور، ولعله دوره الآن.» إذن كان حكم مصر «بالدور»! مجموعة الضباط الذين شكلوا مجلس قيادة الثورة، يتناوبون على المنصب الخطير واحدًا بعد الآخر، وفي النهاية، وفي لحظة مرض القلب والتهديد بالاغتيال، بقي واحد منهم، فلا بد إذن أن يأخذ نصيبه، ونصيبه هو أن يكون خليفة لحاكم مصر.

إنني لا أشك لحظةً واحدة في ذكاء هيكل الذي كان بالفعل غير عادي، ولكن الأمر الذي يذهلني بحق هو: كيف فات على هيكل، بكل ذكائه، المغزى الواضح والصارخ لهذا الكلام؟ كيف يعجز هيكل الموهوب عن أن يُدرك أنه، بكلامه هذا، يسيء إلى عبد الناصر أبلغ إساءة، ويهين مصر كلها إذ يصوِّرها على أنها «عزبة» لا بد أن يتناوب على امتلاكها مجموعة الضباط هؤلاء «بالدور»؟ فكر جيدًّا أيها القارئ في المقياس الذي يتم على أساسه الاختيار: ليس الكفاءة، التي لم يثبت السادات خلال حكم عبد الناصر — حسب كلام هيكل — شيئًا منها، وليس الوطنية، فقد كان عبد الناصر وهيكل يعلمان أنه كان في وقتٍ ما عميلًا مزدوجًا، وليس وجود برنامج لإنقاذ الوطن لديه، فقد كان بشهادة هيكل عاكفًا على حياته الخاصة، عزوفًا عن القراءة والاطلاع وتثقيف نفسه، وإنما المقياس هو أنه الوحيد الذي لم ينل بعدُ نصيبه من الفطيرة؛ هو أن «عليه الدور»!”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“من سمات عهود القمع الفكري وكبت الرأي المعارض، أنها تُنشئ أجيالًا لا تعرف التاريخ إلا في صورةٍ مشوهة، فحين تكون وجهات النظر المتباينة متاحة يستطيع العقل الناضج أن يُكوِّن صورةً صحيحة عن أحداث التاريخ وتياراته، ويُصدر أحكامًا سليمة على السياسات التي تحكمت في صياغته، أما حين يسري الحظر الكامل على وجهات النظر التي تخالف موقف السلطة الحاكمة، فكيف نتوقع من أي جيل لم يتعرَّض إلا لوجهة النظر هذه، أن يفهم أحداث التاريخ ويصدر حكمًا صحيحًا عليها؟”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“يعمد هيكل إلى استخدام التعليلات الشخصية، مثل نوع الحياة التي عاشها الحاكم، أو نقص تعليمه؛ لكي يفسر بها أخطر الأحداث، وكأن السادات لو كان أكثر علمًا لتغيرت سياساته جميعًا، أما المصالح والانتماءات والارتباطات، فلا مكان لها في تعليلات هيكل، فظروف الحاكم، من حيث هو فردٌ معين نشأ في أوضاعٍ معينة، هي التي تفسِّر كل شيء، وإن المرء ليعجب كيف يقبل مفكر ومُحللٌ كبير، كان أقرب المقربين إلى حكام أكبر بلدٍ عربي خلال ربع قرن من الزمان على الأقل، أن يقدم مثل هذا التعليل الجزئي الضيق لأحداثٍ سياسيةٍ كبرى، ويتجاهل عواملَ سياسية مثل اختيار الحاكم أن ينتمي إلى الشريحة العليا للمجتمع ويربط مصيره بها، ومثل اتباعه أسلوبًا للحكم غير مستند إلى إرادةٍ شعبية تعبر عن نفسها تعبيرًا حرًّا سليمًا، فهل يكون من المستغرب بعد ذلك، أن تكون النتيجة التي يصل إليها تحليله، هي أن «من الظلم إصدار حكم قاطع عليه»؟”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“إن المسألة كلها خلطٌ مركَّب، فالكلام عن الأحياء والأموات، والتفرقة بينهم في النقد، أمر لا معنى له في ظل أي وعيٍ سياسيٍّ سليم، ومبدأ «اذكروا محاسن موتاكم» ينطبق على الأقارب أو الجيران أو الشركاء، ولكنه خارج عن مجال الكتابة التاريخية والسياسية، ولو صح هذا المبدأ في تلك الميادين الأخيرة، لما استطعنا كتابة التاريخ، ولكان الموت هو شهادة البراءة لكل حاكمٍ ظالم أو فاسق أو طاغية، ولأصبح كل مؤرخ، بحكم مهنته ذاتها، نبَّاشًا للقبور، ولكن الناس الذين اعتادوا على مدى سنواتٍ طويلة، أن يحصروا تفكيرهم في شخص الحاكم، والذين عجزوا عن أن يتصوَّروا أية حقيقة تتجاوزه، هم الذين يصبغون السياسة بهذه الصبغة الشخصية، ويحكمون على تصرفات الحكام مثلما يحكمون على سلوك «كبار العائلة»، وينسون المسئوليات الخاصة «لرجل الدولة»، التي تحتم علينا أن نحاسبه على كل شيء، وفي أي وقت نشاء.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“إن الفكرة الكامنة من وراء هذا هي فكرة «الستر»، وهي مبدأٌ أخلاقيٌّ مذموم حتى على المستوى الفردي، ففي أخلاقنا الشعبية نزوعٌ شديد إلى التغطية على العيوب، إلى درجة أن افتضاح هذه العيوب ومعرفة الآخرين بها هو في نظرنا شر يفوق العيوب نفسها، وكثيرًا ما نتصرف بحيث نتغاضى عن أخطر أنواع الآثام ما دامت «مستورة»، ومن هنا كان «الستر» أمنية غالية في تعبيراتنا الشعبية المألوفة، ولكن الخطأ الفكري والأخلاقي يتضاعف، حين ننقل هذا المبدأ إلى ميدان السياسة، فندعو مواطنينا إلى السكوت على أوضاعٍ جائرة، حتى لا تفتضح أمام الآخرين، ونطالبهم بألا «ينشروا الغسيل»، بدلًا من أن نطالب أنفسنا بأن نُبقي غسيلنا نظيفًا على الدوام.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“إن قليلًا من التفكير يُقنعنا بأن الحريص حقًّا على سمعة بلاده، هو الذي لا يوحد بينها وبين حاكمها، وفي حالة بلدٍ كمصر يكون من المخجل حقًّا، أن يساوي المرء بين ذلك التاريخ العريق والحضارة الأصيلة، بين بلد النيل والأهرام والأزهر، وبين تصرفات حكام أفراد يمكن أن يكون الكثيرون منهم مصابين بجنون العظمة، أو داء الاستبداد والبطش والادعاء. إن من يعتز ببلده وتاريخه حقًّا، هو ذلك الذي يعلن في كل مكان، وأمام الجميع، أن مصر ليست مسئولة عن أخطاء حكامها، ويُنزِّه بلده عن تلك النقائص التي يمكن أن يتصف بها هذا الحاكم أو ذاك، أما ذلك الذي يُنصِّب نفسه محاميًا عن كل خطأ يرتكبه الحاكم، متوهمًا أنه يدافع على هذا النحو عن وطنه، فهو في الواقع الذي يسيء إلى هذا الوطن أبلغ إساءة، ولو اتخذت مسألة التوحيد بين الحاكم والوطن قاعدةً عامة، لكان علينا جميعًا أن نُحمِّل بلدًا كمصر أخطاء فاروق والخديوي توفيق والحاكم بأمر الله وقراقوش.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي
“هذا الرجل (السادات) قد اخترناه جميعًا زعيمًا لهذا البلد، واختيار زعيم فيه تجسيد للشعب الذي اختاره، وبالتالي فإن كل ما يُقال عن هذا الزعيم يعتبر في حقيقته نيلًا من الشعب الذي اختاره.

قائل هذه الكلمات أستاذ كبير في القانون، في اجتماع للمجلس الأعلى للصحافة خصص لمناقشة كتاب هيكل، ونشرته جريدة «الأهرام» في ٢٩ أبريل ١٩٨٣م، والأساس الذي يُبنى عليه تفكير أستاذ القانون هو أن الحاكم تجسيد لبلده، ما دامت قد اختارته بإرادتها، ومن ثم فإن أي هجوم من هيكل أو غيره على السادات هو هجوم على مصر كلها.

هذا النوع من التفكير بلغ، في السنوات الأخيرة، من الانتشار حدًّا يُحتِّم علينا أن نتوقف طويلًا عنده، فما من أحدٍ منا إلا وتعرض مرارًا لتلك التجربة المثيرة والمستفزة، تجربة المناقشة مع شخص يؤكد أن أي نقد للحاكم، هو انتقاص من قدر بلاده، وأن الوطنية الحقة تحتم على المرء ألا يسيء إلى الحكام.

ولا شك أن عبارة أستاذ القانون، السابقة، هي تعبيرٌ نموذجي عن وجهة النظر هذه:
(أ)فهو يستخدم لفظ «الزعيم» مرتَين، وهي نفس الكلمة التي كان يطلقها النازيون على هتلر (الفوهرر)، والفاشيون على موسوليني (الدوتشي). وليس هذا استخدامًا اعتباطيًّا؛ إذ كان يمكنه أن يقول: الحاكم، أو رئيس الدولة، ولكن إصراره على لفظ «الزعيم» هو جزء لا يتجزأ من العقلية التي توحد على نحوٍ مطلق بين شخص الحاكم وبلده.
(ب)وهو يرى هذا الزعيم «تجسيدًا» للشعب، ولم يقل «رمزًا»؛ لأن الرمز لا يتعين أن يكون مشابهًا لما يرمز إليه (اللون الأخضر رمز لإمكان مرور السيارات مثلًا) بل تفصل بينهما مسافةٌ ما، أما التجسيد فهو اندماجٌ كامل، بل إن الزعيم يصبح في هذه الحالة «خلاصة» شعبه وأنقى تعبير عنه، وهذا يفترض، بطبيعة الحال، أن الشعب كتلةٌ متجانسة لا تمايز فيها، ولا اختلاف ولا تباين في الرأي أو الاتجاه، حتى يستطيع شخصٌ واحد أن يكون تجسيدًا له، ومن هنا فمن المؤكد أن الإنكليز، مثلًا لا بد أن يسخروا ممن يرى في «تاتشر» تجسيدًا لهم، إذ إنها حتى لو كانت تُجسِّد المحافظين، فماذا تقول عن العمال والأحرار؟ وفضلًا عن ذلك فإن الزعيم الذي يجسِّد شعبه هو، بحكم تعريفه، غير قابل للتغيير، وإلا فكيف نتصوَّر أن يتخلَّص شعب ممن يُجسِّده؟
(جـ)وأخيرًا، فإن أستاذ القانون الكبير يتحدَّث أربع مرات، في أقل من ثلاثة أسطر، عن «اختيار» الشعب للزعيم، وهكذا فإنه، بكل وقار القانون وهيبة الأستاذية، يعلن ثقته المطلقة وتصديقه الكامل لاستفتاءات ٩٩٫٩٪، ويرى فيها أساسًا يسمح للمرء بأن يقول باطمئنانٍ تام وبضميرٍ مستريح: «هذا الرجل قد اخترناه جميعًا.»
هذه الكوارث أو الفواجع الفكرية تتجمع كلها في أقل من ثلاثة أسطر، وتعبر بوضوحٍ صارخ عن تدني مستوى الوعي السياسي والاجتماعي، عند من يُفتَرض فيهم أن يكونوا معلمين ومرشدين لغيرهم في هذا الميدان، وهي في واقع الأمر أبلغ دليل على نوع العقول التي توحِّد بين الحاكم وبلده، وترفض أي نقد للحاكم، بحجة أن هذا النقد إهانة لوطنه ونيل منه.”
فؤاد زكريا, كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي